مررت ليلة أمس فإذا برجل بائس فرأيته واضعاً يده على بطنه كأنما يشكو ألماً، فرثيت لحاله وسألته: ما باله؟ فشكا إلي الجوع، ففثأته -يقال: فثأت فلاناً عن فلان إذا سكنت غيظه عليه- عنه ببعض ما قدرت عليه، ثم تركته وذهبت إلى زيارة صديق لي من أرباب الثراء والنعمة، فأدهشني أني رأيته واضعاً يده على بطنه، وأنه يشكو من الألم ما يشكو ذلك البائس الفقير، فسألته عما به فشكا إليَّ البطنة، فقلت: يا للعجب! لو أعطى ذلك الغنيُّ ذلك الفقيرَ ما فَضَل عن حاجته من الطعام ما شكا واحدٌ منهما سقماً ولا ألماً.
لقد كان جديراً به أن يتناول من الطعام ما يشبع جوعته، ويطفئ غلته، ولكنه كان محباً لنفسه، مغالياً بها، فضم إلى مائدته ما إختلسه من صحفة الفقير، فعاقبه الله على قسوته بالبطنة، حتى لا يهنئ للظالم ظلمُه، ولا يطيب عيشُه.
وهكذا يصدق المثل القائل بطنة الغني إنتقام لجوع الفقير.
ما ظنت السماء بمائها، ولا شحت الأرض بنباتها، ولكن حسد القوي الضعيف عليهما فزواهما زوى عنه حقه -منعه إياه- واحتجنهما -احتجن الشيء: إذا جذبه بالمحجن إلى نفسه، والمحجن الصولجان، والمراد أنه استأثر به- دونه، فأصبح فقيراً معدماً، شاكياً متظلماً، غير ماؤه المياسير الأغنياء، لا الأرض والسماء.
ليتني أملك ذلك العقل الذي يملكه هؤلاء الناس، فأستطيع أن أتصور كما يتصورون حجة الأقوياء في أنهم أحق بإحراز المال، وأولى بإمتلاكه من الضعفاء، إن كانت القوة حجتهم عليه، فلم لا يملكون بهذه الحجة سلب أرواحهم كما ملكوا سلب أموالهم؟ وما الحياة في نظر الحي بأثمن قيمة من اللقمة في يد الجائع، وإن كانت حجتهم أنهم ورثوا ذلك المال عن آبائهم قلنا لهم: إن كانت الأبوة غلة الميراث فلم ورثتم آبائكم في أموالهم ولم ترثوهم مظالمهم؟ فلقد كان آبائكم أقوياء فإغتصبوا ذلك المال من الضعفاء، وكان حقاً عليهم أن يردوا إليهم ما إغتصبوا منهم، فإن كنتم لابد ورثاءهم فإخلفوهم في رد المال إلى أربابه، لا في الإستمرار على إغتصابه.
ما أظلم الأقوياء في بني الإنسان، وما أقسى قلوبهم، ينام أحدهم ملء جفنيه على فراشه الوثير، ولا يقلقه في مضجعه أنه يسمع أنين جاره، وهو يرعد برداً وقراً، ويجلس أمام مائدة حافلة بصنوف الطعام قَدِيدِه وشوائه حلوه وحامضه ولا ينغص عليه شهوته علمه أن بين أقربائه وذوي رحمه من تتواثب أحشاؤه شوقاً إلى فُتَات تلك المائدة ويسيل لعابه تلهفاً على فضلاتها، بل إن بينهم من لا تخالط الرحمة قلبه ولا يعقد الحياء لسانه، فيظل يسرد على مسمع الفقير أحاديث نعمته، وربما إستعان به على عد ما تشتمل خزائنه من الذهب وصناديقه من الجوهر وغرفه من الأثاث والريش، ليكسر قلبه وينغص عليه عيشه ويبغض إليه حياته وكأنه يقول له في كل كلمة من كلماته وحركة من حركاته: أنا سعيد، لأني غني، وأنت شقي، لأنك فقير.
أحسب لولا أن الأقوياء في حاجة إلى الضعفاء يستخدمونهم في مرافقهم وحاجاتهم كما يستخدمون أدوات منازلهم، ويسخرون في مطالبهم كما يسخرون مراكبهم، ولولا أنهم يؤثرون الإبقاء عليهم، ليمتعوا أنفسهم بمشاهدة عبوديتهم لهم وسجودهم بين أيديهم لإمتصوا دمائهم كما إختلسوا أرزاقهم، ولحرموهم الحياة كما حرموهم لذة العيش فيها.
لا أستطيع أن أتصور أن الإنسان إنسان حتى أراه محسناً، لأني لا أعتمد فصلاً صحيحاً بين الإنسان والحيوان إلا الإحسان، وإني أرى الناس ثلاثة: رجل يحسن إلى غيره، ليتخذ إحسانه إليه سبيلاً إلى الإحسان إلى نفسه، وهو المستبد الجبار الذي لا يفهم من الإحسان إلا أنه يستعبد الإنسان، ورجل يحسن إلى نفسه ولا يحسن إلى غيره وهو الشَّرِه المتكالب الذي لو علم أن الدم السائل يستحيل إلى ذهب جامد لذبح في سبيله الناس جميعاً، ورجل لا يحسن إلى نفسه ولا إلى غيره وهو البخيل الأحمق الذي يجيع بطنه ليشبع صندوقه، وأما الرابع: وهو الذي يحسن إلى غيره، ويحسن إلى نفسه، فلا أعلم له مكاناً، ولا أجد إليه سبيلاً، وأحسب أنه هو الذي كان يفتش عنه الفيلسوف اليوناني -ديوجين الكلبي- حينما سئل: ما يصنع بمصباحه؟ وكان يدور به في بياض النهار، فقال: أفتش عن إنسان.
الكاتب: مصطفى لطفي المنفلوطي.
المصدر: موقع المختار الإسلامي.